كيف
لا يكون لرمضان هذا الفضل الكبير ، وهذا التميز العظيم ، عن سائر الشهور
والأيام ، وفيه أنزل القرآن ، قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ }
هذا الكتاب الذي انتهت إليه أصول الرسالات
السماوية جميعاً ، وحكى لنا قصة البنوة كمختبر بشري ، وتجاربها في الهداية
، على مدى تاريخ البشرية الطويل.
وكأن المؤمن به ، الملتزم
بتعاليمه وأحكامه ، يقف على القمة لتجربة الأنبياء مع أقوامهم ، ووسائلهم
في هدايتهم ، وخصائصهم ، كمحل للأسوة والاقتداء ، في الصبر والتحمل ،
والإيثار ، والرحمة ، والعفو ، والإحسان ، والاحتساب في سبيل نشر الخير ،
والفضيلة.
وكأن المؤمن بالقرآن ، إلى جانب أنه يتحصل على
مواريث النبوات ، وينضم إلى قافلة الخير ، والاستقامة ، فإنه يمتلك أصول
الخطاب الإلهي للبشر ، ابتداء مما أنزل الله من تعاليم في الصحف الأولى : {
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [ الأعلى : 18 ]
وانتهاء
الرسالة الخاتمة التي جاءت مصدقة لما سبقها من الرسالات ، ومصوبة
لتعاليمها،بعد أن داخلتها يد التحريف والتبديل ، قال تعالى : {
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [ المائدة :48] .
فبالقرآن
ينضم المسلم إلى قافله الخلود ، التي ابتدأت مع بدء الخلق ، ويمتد به
الخلود ويمتد حتى مرحلة الخلود ، المستقر في دار الخلد ، الجنة التي وعدها
الله المؤمنين ، كل هذا كان محله ، ومدخله ، شهر رمضان.
والحقيقة
التي لا بد من الإشارة إليها ، في شهر رمضان ، الذي بلغ تلك المكانة ،
بسبب القرآن إلى جانب كل المعاني ، التي ينضحها القرآن ، أسوة بالرسول عليه
الصلاة والسلام الذي تصفه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بقولها : كان
خلقه القرآن. إن القرآن هو الخطاب الإلهي الأخير للبشرية ، وهو أقدم وثيقة
تاريخية دينية وصلت بالتواتر : أي بما يفيد علم اليقين ، بسلامة النقل ، من
جيل إلى جيل ، وهذا يعني فيما يعينه ، أن المسلمين ، يمتلكون دون غيرهم من
العالم ، النص الديني السليم ، من التحريف ، والتبديل ، بل يمتلكون
المعيار ، معيار التصويب والتصحيح ، لما داخل النبوات السابقة ، من تحريف
وتبديل ، وامتلاك هذا النص الإلهي السليم يفوق لكل الكنوز ، والثروات ،
والطاقات ، لأنه يأتي بكل تلك الكنوز والطاقات ، ولكنها لا تأتي به.
والمسلمون
عندما تمسكوا بالقرآن ، كانوا خير أمة أخرجت للناس ، وألحقوا الرحمة
بالناس ، وخرجوا بهم من الظلمات إلى النور : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }.
وأصبحوا
أمة الحضارة ، والعطاء العالمي ، وتخلصوا من الفرقة ، والشتات بالتناحر
والتشاحن ، وتحولوا إلى التعاون والوحدة أصبحوا أمة مذكورة تاريخياً ،
وحضارياً ، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ }
[ الزخرف : 44 ] .
إن امتلاك المسلمين اليوم للنص الإلهي
السليم ، يمنحهم القدرة على إنقاذ البشرية ، ويمنحهم الإمكان الحضاري ،
ويجعلهم في محل القيادة للناس ، والشهادة عليهم ، من موقع الوسطية
والاعتدال. يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدا } .
إنهم يمتلكون التاريخ النبوي ، ويمتلكون
المعيار ، ويمتلكون قيم الهداية ، يمتلكون الهدى والبينات ، يمتلكون
الفرقان ، الذي يمنحهم البعد والتاريخي ، والعطاء العالمي ، والمدى
المستقبلي ، لدعوتهم ورسالتهم.
لذلك نرى أن من الأخطاء
الفكرية ، والدينية ، والثقافية ، والتاريخية ، محاولات اختزال الإسلام في
زمن معين ، أو جماعة معينة ، أو إقليم معين ، أو جنس بشري معين ، أو صراع
مع نظام ، أو حاكم ، أو واقع ما ، كائناً ما كان.
إن
الإسلام بما يمتلك من قيم الكتاب الخاتمة ، للنبوة الخالدة ، على الزمن ،
أكبر بكثير من الإنسان ، والزمان ، والمكان ، والأشخاص والأحوال ، والأحزاب
، والجماعات ، والحكام ، وحتى المحكومين.
إنه النور الذي
لا يطفأ ، ولا ينطفئ ، مهما حاولت الأفواه الصغيرة ، أن تقذفه لتطفئه
متمثلة صورة النمرود ، والمتجددة ، في حواره مع سيدنا إبراهيم أبي الأنبياء
عليه السلام ، عندما قال : أنا أحي وأميت ، ذلك أن خلود الآيات على الزمن ،
يعني خلود المشكلات ، وتجدد الجدال والمواجهة ، بين النبوة ، متمثلة
بسيدنا إبرهيم ، أبي الأنبياء ، والنماريد المستمرة ، التي تتوهم أنها تحيى
وتميت فلا تلبث أن تموت ، ويخلد الإسلام والمسلمين ولو لم تتكرر أمثال هذه
الصورة ، لتوقف ، التاريخ البشري ، وانتهت رحلة الصراع بين الخير والشر ،
وألغيت سنن المدافعة ، وضرب الحق بالباطل : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ
الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ }
فلولا الضرب ، لما ظهر الزبد ، ولما تحصحص الحق الذي ينفع الناس.
نعود
إلى القول : أي فضل لشهر رمضان ، إلى جانب فضائله العظيمة ، والكثيرة أكبر
من أنه شهر القرآن ، ذلك الشهر الذي خصه الله من بين الشهور كلها ، بنزول
القرآن ، كما خصه بتلاوة ومدارسة القرآن ؟
فلقد كان جبريل
أمين الوحي ، ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فيدارسه
القرآن ، فالمدارسة والمراجعة ، والتجدد ، كان محله شهر رمضان ، فرمضان
مائدة القرآن ، بما فيه من إقبال على التلاوة الفردية ، والمدارسة الجماعية
، والدروس في المساجد ، وتلاوات الصلوات الجهرية ، وصلاة القيام ، تلك
التلاوات المتعددة ، التي إن أحسنا تدبرها ، وحسن التعامل معها ، والتلقي
لها ، فسوف تفعم نفوسنا بالإيمان ، وتحقق لنا النقلة الكبيرة ، في سلوكنا
وواقعنا.
وبذلك يشكل رمضان ، من كل عام ، مرحلة التصحيح والتصويب ، لأحوالنا والارتقاء لمواقعنا ومراتبنا.
روى
عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (
يقال لصاحب القرآن اقرآ وارق ، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا ، فإن
منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها ) [ السنن لابن ماجه ].
فهل
يدرك المسلمون رسالة ومكانة شهر القرآن ، ويدركون أهمية المدارسة ، والتدبر
، والتلاوة ، يدركون أن القراءة سبيل الرقي ، والارتقاء ، فيكون رمضان
مرحلة التحول الكبير في حياتهم ، من الجهل إلى العلم ، ومن الأمية إلى
القراءة ، ومن الظلمات إلى النور ؟